كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السورة التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأسماء دون الحروف وهي الصافات والذاريات، والطور، وهذه السورة بعدها بالأولى فيها القسم لإثبات الوحدانية كما قال تعالى: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4] وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لصادق وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 5، 6] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} [الطور: 7، 8].
وفي هذه السورة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لتكمل الأصول الثلاثة: الوحدانية، والحشر، والنبوة.
المسألة الثالثة:
لم يقسم الله على الوحدانية ولا على النبوة كثيرًا، أما على الوحدانية فلأنه أقسم بأمر واحد في سورة الصافات، وأما على النبوة فلأنه أقسم بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة الضحى وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فإن قوله تعالى: {واليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] وقوله تعالى: {والشمس وضحاها} [الشمس: 1] وقوله تعالى: {والسماء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] إلى غير ذلك، كلها فيها الحشر أو ما يتعلق به، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

ودلائل النبوة أيضًا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة، وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل، وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع فأكثر القسم ليقطع به المكلف ويعتقده اعتقادًا جازمًا، وأما التفسير ففيه مسائل:
الأولى: الواو للقسم بالنجم أو برب النجم ففيه خلاف قدمناه، والأظهر أنه قسم بالنجم يقال ليس للقسم في الأصل حرف أصلًا لكن الباء والواو استعملنا فيه لمعنى عارض، وذلك لأن الباء في أصل القسم هي الباء التي للإلصاق والاستعانة فكما يقول القائل: استعنت بالله، يقول: أقسمت بالله، وكما يقول: أقوم بعون الله على العدو، يقول: أقسم بحق الله فالباء فيهما بمعنى كما تقول: كتب بالقلم، فالباء في الحقيقة ليست للقسم غير أن القسم كثر في الكلام فاستغنى عن ذكره وغيره لم يكثر فلم يستغن عنه، فإذا قال القائل: بحق زيد فهم منه القسم لأن المراد لو كان هو مثل قوله: ادخل زيد، أو اذهب بحق زيد، أو لم يقسم بحق زيد لذكر كما ذكر في هذه الأشياء لعدم الاستغناء فلما لم يذكر شيء علم أن الحذف للشهرة والاستغناء، وذلك ليس في غير القسم فعلم أن المحذوف فعل القسم، فكأنه قال: أقسم بحق زيد، فالباء في الأصل ليس للقسم لكن لما عرض ما ذكرنا من الكثرة والاشتهار قيل الباء للقسم، ثم إن المتكلم نظر فيه فقال هذا لا يخلو عن التباس فإني إذا قلت بالله توقف السامع فإن سمع بعده فعلًا غير القسم كقوله: بالله استعنت وبالله قدرت وبالله مشيت وأخذت، لا يحمله على القسم، وإن لم يسمع حمله على القسم إن لم يتوهم وجود فعل ما ذكرته ولم يسمعه، أما إن توهم أني ذكرت مع قولي بالله شيئًا آخر وما سمعه هو أيضًا يتوقف فيه ففي الفهم توقف، فإذا أراد المتكلم الحكيم إذهاب ذلك مع الاختصار وترك ما استغنى عنه، وهو فعل القسم أبدل الباء بالتاء، وقال: تالله، فتكلم بها في كلمة الله لاشتهار كلمة الله والأمن من الالتباس فإن التاء في أوائل الكلمات قد تكون أصلية، وقد تكون للخطاب والتأنيث، فلو أقسم بحرف التاء بمن اسمه داعي أو راعي أو هادي أو عادي يقول تداعى أو تراعى أو تهادى أو تعادى فيلتبس، وكذلك فيمن اسمه رومان أو توران إذا قلت ترومان أو تتوران على أنك تقسم بالتاء تلتبس بتاء الخطاب والتأنيث في الاستقبال، فأبدلوها واوًا لا يقال عليه إشكالان الأول: مع الواو لم يؤمن الالتباس، نقول ولى فتلتبس الواو الأصلية بالتي للقسم لأنا نقول ذلك لم يلزم فيما ذهبنا إليه، وإنما كان ذلك في الواو حيث يدل وينبىء عن العطف وإن لم يستعمل الواو للقسم، كيف وذلك في الباء التي هي كالأصل متحقق تقول برام في جمع برمة، وبهام في جمع بهمة، وبغال للبسية الباء الأصلية التي في البغال والبرام بالباء التي تلصقها بقولك مال ورأى فتقول بمال، وأما التاء لما استعملت للقسم لزم من ذلك الاستعمال الالتباس حيث لم يكن من قبل حرفًا من الأدوات كالباء والواو الإشكال الثاني: لم تركت مما لا التباس فيه كقولك: تالرحيم وتالعظيم؟ نقول: لما كانت كلمة الله تعالى في غاية الشهرة والظهور استعملت التاء فيها على خلاف الأصل، بمعنى لم يجز أن يقال عليها إلا ما يكون في شهرتها، وأما غيرها فربما يخفى عند البعض، فإن من يسمع الرحيم وسمع في الندرة تر بمعنى قطع ربما يقول ترحيم فعل وفاعل أو فعل ومفعول وإن كان ذلك في غاية البعد لكن الاستواء في الشهرة في المنقول منه والمنقول إليه لازم، ولا مشهور مثل كلمة الله، على أنا نقول لم قلت إن عند الأمن لا تستعمل ألا ترى أنه نقل عن العرب برب الكعبة والذي يؤيد ما ذكرنا أنت تقول أقسم بالله ولا تقول أقسم تالله لأن التاء فيه مخافة الالتباس عند حذف الفعل من القسم وعند الإتيان به لم يخف ذلك فلم يجز.
المسألة الثانية:
اللام في قوله تعالى: {والنجم} لتعريف العهد في قول ولتعريف الجنس في قول، والأول قول من قال: {والنجم} المراد منه الثريا، قال قائلهم:
إن بدا النجم عشيا ** ابتغى الراعي كسيًا

والثاني فيه وجوه أحدها: النجم هو نجم السماء التي هي ثابتة فيها للاهتداء وقيل لا بل النجم المنقضة فيها التي هي رجوم للشياطين ثانيها: نجوم الأرض وهي من النبات ما لا ساق له ثالثها: نجوم القرآن ولنذكر مناسبة كل وجه ونبيّن فيه المختار منها، أما على قولنا المراد الثريا فهو أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد والنبي صلى الله عليه وسلم تميز عن الكل بآيات بينات فأقسم به، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبكر حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت بالعشاء أواخر الخريف نقل الأمراض والنبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر قل الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية والحلمية، وعلى قولنا المراد هي النجوم التي في السماء للاهتداء نقول النجوم بها الاهتداء في البراري فأقسم الله بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة، وعلى قولنا المراد الرجوم من النجوم، فالنجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض، وعلى قولنا المراد القرآن فهو استدل بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم على صدقه وبراءته فهو كقوله تعالى: {يس والقرءان الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين على صراط مُّسْتَقِيمٍ} [ياس: 1 4] ما ضللت ولا غويت، وعلى قولنا النجم هو النبات، فنقول النبات به ثبات القوى الجسمانية وصلاحها والقوة العقلية أولى بالإصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل، ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي هي في السماء لأنها أظهر عند السامع وقوله: {إِذَا هوى} أدل عليه، ثم بعد ذلك القرآن أيضًا فيه ظهور ثم الثريا.
المسألة الثالثة:
القول في {والنجم} كالقول في {والطور} حيث لم يقل والنجوم ولا الأطوار، وقال: {والذريات} {والمرسلات} وقد تقدم ذكره.
المسألة الرابعة:
ما الفائدة في تقييد القسم به بوقت هو به؟ نقول النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيدًا عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال كذلك النبي صلى الله عليه وسلم خفض جناحه للمؤمنين وكان على خلق عظيم كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وكما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] إن قيل الاهتداء بالنجم إذا كان على أفق المشرق كالاهتداء به إذا كان على أفق المغرب فلم يبق ما ذكرت جوابًا عن السؤال، نقول الاهتداء بالنجم وهو مائل إلى المغرب أكثر لأنه يهدي في الطريقين الدنيوي والديني، أما الدنيوي فلما ذكرنا، وأما الديني فكما قال الخليل {لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] وفيه لطيفة، وهي أن الله لما أقسم بالنجم شرفه وعظمه، وكان من المشركين من يعبده فقرن بتعظيمه وصفًا يدل على أنه لم يبلغ درجة العبادة، فإنه هاوٍ آفل.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}.
ثم قال تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي، والذي قاله بعضهم عند محاولة الفرق: أن الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد، قال تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] وقال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالًا في الوضع، تقول ضل بعيري ورحلي، ولا تقول غوى، فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقًا أصلا، والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد، ولا تقول إنه ضال، والضال كالكافر، والغاوي كالفاسق، فكأنه تعالى قال: {مَا ضَلَّ} أي ما كفر، ولا أقل من ذلك فما فسق، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] أو نقول الضلال كالعدم، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة، وقوله: {صاحبكم} فيه وجهان الأول: سيدكم والآخر: مصاحبكم، يقال صاحب البيت ورب البيت، ويحتمل أن يكون المراد من قوله: {مَا ضَلَّ} أي ما جن، فإن المجنون ضال، وعلى هذا فهو كقوله تعالى: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 1_ 3] فيكون إشارة إلى أنه ما غوى، بل هو رشيد مرشد دال على الله بإرشاد آخر، كما قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109] وقال: {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} [يونس: 72] وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] إشارة إلى قوله هاهنا {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} فإن هذا خلق عظيم، ولنبين الترتيب فنقول: قال أولًا {مَا ضَلَّ} أي هو على الطريق {وَمَا غوى} أي طريقه الذي هو عليه مستقيم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي هو راكب متنه آخذ سمت المقصود، وذلك لأن من يسلك طريقًا ليصل إلى مقصده فربما يبقى بلا طريق، وربما يجد إليه طريقًا بعيدًا فيه متاعب ومهالك، وربما يجد طريقًا واسعًا آمنًا، ولكنه يميل يمنة ويسرة فيبعد عنه المقصد، ويتأخر عليه الوصول، فإذا سلك الجادة وركب متنها كان أسرع وصولًا، ويمكن أن يقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} دليل على أنه ما ضل وما غوى، تقديره: كيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى، وإنما يضل من يتبع الهوى، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} [ص: 26] فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله: {مَا ضَلَّ} وصيغة المستقبل في قوله: {وَمَا يَنطِقُ} في غاية الحسن، أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره {وَمَا غوى} حين اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولًا شاهدًا عليكم، فلم يكن أولًا ضالًا ولا غاويًا، وصار الآن منقذًا من الضلالة ومرشدًا وهاديًا.
وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة؟ نقول بلى، وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر، والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب، فقال تعالى: {مَا ضَلَّ} في صغره، لأنه لا ينطق عن الهوى، وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنها المحبة، لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية، فالنفس إذا كانت دنيئة، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة، فإنها مستعملة في موضع المدح، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طغى وَءاثَرَ الحياة الدنيا} [النازغات: 37 38] إلى قوله: {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} [النازعات: 40] إشارة إلى علو مرتبة النفس.
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}.
بكلمة البيان، وذلك لأنه تعالى لما قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] كأن قائلًا قال: فبماذا ينطق أعن الدليل أو الاجتهاد؟ فقال لا، وإنما ينطق عن الله بالوحي، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{إن} استعملت مكان ما للنفي، كما استعملت ما للشرط مكان إن، قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} [البقرة: 106] والمشابهة بينهما من حيث اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأن إن من الهمزة والنون، وما من الميم والألف، والألف كالهمزة والنون كالميم، أما الأول: فبدليل جواز القلب، وأما الثاني: فبدليل جواز الإدغام ووجوبه، وأما المعنى فلأن إن تدل على النفي من وجه، وعلى الإثبات من وجه، ولكن دلالتها على النفي أقوى وأبلغ، لأن الشرط والجزاء في صورة استعمال لفظة إن يجب أن يكون في الحالة معدومًا إذا كان المقصود الحث أو المنع، تقول إن تحسن فلك الثواب، وإن تسيء فلك العذاب، وإن كان المراد بيان حال القسمين المشكوك فيهما كقولك: إن كان هذا الفص زجاجًا فقيمته نصف، وإن كان جوهرًا فقيمته ألف، فههنا وجود شيء منهما غير معلوم وعدم العلم حاصل، وعدم العلم هاهنا كعدم الحصول في الحث والمنع، فلابد في صور استعمال إن عدم، إما في الأمر، وإما في العلم، وإما الوجود فذلك عند وجود الشرط في بيان الحال، ولهذا قال النحاة: لا يحسن أن يقال إن احمر البسر آتيك، لأن ذلك أمر سيوجد لا محالة، وجوزوا استعمال إن فيما لا يوجد أصلًا، يقال في قطع الرجاء إن ابيض القار تغلبني، قال الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} [الأعراف: 143] ولم يوجد الاستقرار ولا الرؤية، فعلم أن دلالته على النفي أتم، فإن مدلوله إلى مدلول ما أقرب فاستعمل أحدهما مكان الآخر هذا هو الظاهر، وما يقال إن وما، حرفان نافيان في الأصل، فلا حاجة إلى الترادف.
المسألة الثانية:
هو ضمير معلوم أو ضمير مذكور، نقول فيه وجهان أشهرهما: أنه ضمير معلوم وهو القرآن، كأنه يقول: ما القرآن إلا وحي، وهذا على قول من قال النجم ليس المراد منه القرآن، وأما على قول من يقول هو القرآن فهو عائد إلى مذكور والوجه الثاني: أنه عائد إلى مذكور ضمنًا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه وذلك لأن قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] في ضمنه النطق وهو كلام وقول فكأنه تعالى يقول وما كلامه وهو نطقه إلا وحي وفيه وجه آخر أبعد وأدق، وهو أن يقال قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صاحبكم} قد ذكر أن المراد منه في وجه أنه ما جن وما مسّه الجن فليس بكاهن، وقوله: {وَمَا غوى} أي ليس بينه وبين الغواية تعلق، فليس بشاعر، فإن الشعراء يتبعهم الغاوون، وحينئذ يكون قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} ردًا عليهم حيث قالوا قوله قول كاهن وقالوا قوله قول شاعر فقال ما قوله إلا وحي وليس بقول كاهن ولا شاعر كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقول شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقول كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41، 42].
المسألة الثالثة:
الوحي اسم أو مصدر، نقول يحتمل الوجهين، فإن الوحي اسم معناه الكتاب ومصدر وله معان منها الإرسال والإلهام، والكتابة والكلام والإشارة والإفهام فإن قلنا هو ضمير القرآن، فالوحي اسم معناه الكتاب كأنه يقول، ما القرآن إلا كتاب ويوحى بمعنى يرسل، ويحتمل على هذا أيضًا أن يقال هو مصدر، أي ما القرآن إلا إرسال وإلهام، بمعنى المفعول أي مرسل، وإن قلنا المراد من قوله: {إِنْ هُوَ} قوله وكلامه فالوحي حينئذ هو الإلهام ملهم من الله، أو مرسل وفيه مباحث: